فصل: ابن مدركة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ابن مدركة:

واسمه عمرو، ويكنى أبا هذيل، وقيل: أبا خزيمة، وأمه خندف، وهي ليلى ابنة حلوان بن عمران، وأمها ضرية ابنة ربيعة بن نزار، وبها سمي حمى ضرية.
وإخوة مدركة لأبيه وأمه: عامر، وهو طابخة، وعمير، وهو قمعة، يقال: إنه أبو خزاعة.
قال هشام: خرج إلياس في نجعة له فنفرت إبله من أرنب فخرج إليها عمرو فأدركها فسمي مدركة، وأخذها عامر فطبخها فسمي طابخة، وانقمع عمير في الخباء فسمي قمعة، وخرجت أمهم ليلى تمشي فقال لها إلياس: أين تخندفين؟ فسميت خندف، والخندفة: ضرب من المشي.

.ابن إلياس:

وكان يكنى أبا عمرو، وأمه الرباب ابنة جندة بن معد، وأخوه لأبيه وأمه الناس، بالنون، وهو عيلان، وسمي عيلان لفرس له كان يدعى عيلان، وقيل: لأنه ولد في أصل جبل يسمى عيلان، وقيل غير ذلك.
ولما توفي حزنت عليه خندف حزناً شديداً فلم تقم حيث مات ولم يظلها سقفٌ حتى هلكت، فضرب بها المثل. وتوفي يوم الخميس، فكانت تبكي كل خميس من غدوة إلى الليل.

.ابن مضر:

وأمه سودة بنت عك، وأخوه لأبيه وأمه إياد، ولهما أخوان من أبيهما: ربيعة وأنمار، أمهما جدالة ابنة وعلان من جرهم.
وذكر أن نزار بن معد لما حضرته الوفاة أوصى بنيه وقسم ماله بينهم فقال: يا بني هذه القبة، وهي من أدم حمراء، وما أشبهها من مالي لمضر، فسمي مضر الحمراء، وهذا الخباء الأسود وما أشبه من مالي لربيعة، وهذه الخادم وما أشبهها من مالي لإياد، وكانت شمطاء، فأخذ البلق والنقد من غنمه، وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس عليه، فأخذ أنمار ما أصابه، فإن أشكل في ذلك عليكم شيء واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي.
فاختلفوا فتوجهوا إلى الأفعى الجرهمي، فبينما هم يسيرون في مسيرهم إذ رأى مضر كلأ قد رعي فقال: إن البعير الذي قد عى هذا الكلأ لأعور. وقال ربيعة: هو أزور. وقال إياد: هو أبتر. وقال أنمار: هو شرود. فلم يسيروا إلا قليلاً حتى لقيهم رجلٌ توضع به راحلته، فسألهم عن البعير، فقال مضر: هو أعور؟ قال: نعم. قال ربيعة: هو أزور؟ قال: نعم. وقال إياد: هو أبتر؟ قال: نعم. وقال أنمار: هو شرود؟ قال: نعم، هذه صفة بعيري، دلوني عليه، فحلفوا له ما رأوه، فلزمهم، وقال: كيف أصدقكم وهذه صفة بعيري!.
فساروا جميعاً حتى قدموا نجران فنزلوا على الأفعى الجرهمي، فقص عليه صاحب البعير حديثه، فقال لهم الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه؟ قال مضر: رأيته يرعى جانباً ويدع جانباً فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة والأخرى فاسدة الأثر فعرفت أنه أزور. وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره ولو كان أذنب لمصع به. وقال أنمار: عرفت أنه شرود لأنه يرعى المكان الملتف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرق منه نبتاً وأخبث. فقال الجرهمي: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه.
ثم سألهم من هم، فأخبروه، فرحب بهم وقال: أتحتاجون أنتم إلي وأنتم كما أرى؟ ودعا لهم بطعام فأكلوا وشربوا، فقال مضر: لم أر كاليوم خمراً أجود لولا أنها نبت على قبر. وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحماً أطيب لولا أنه وبي بلبن كلبة. وقال إياد: لم أر كاليوم رجلاً أسرى لولا أنه لغير أبيه الذي ينتمي إليه. وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاماً أنفع لحاجتنا.
وسمع الجرهمي الكلام فعجب، فأتى أمه وسألها، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلاً من نفسها فحملت به، وسأل القهرمان عن الخمر، فقال: من حبلة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم فقال: شاة أرضعتها لبن كلبة.
فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر؟ فقال: لأني أصابني عطش شديد. وقيل لربيعة فيما قال، فذكر كلاماً وأتاهم الجرهمي وقال: صفوا لي صفتكم، فقصوا عليه قصتهم، فقضى بالقبة الحمراء والدنانير والإبل، وهي حمر، لمضر، وقضى بالخباء الأسود والخيل الدهم لربيعة، وقضى بالخادم، وكانت شمطاء، والماشية البلق لإياد، وقضى بالأرض والدراهم لأنمار.
ومضر أول من حدا، وكان سبب ذلك أنه سقط من بعيره فانكسرت يده فجعل يقول: يا يداه يا يداه، فأتته الإبل من المرعى، فلما صلح وركب حداً، وكان من أحسن الناس صوتاً. وقيل: بل انكسرت يد مولى له فصاح، فاجتمعت الإبل، فوضع مضر الحداء وزاد الناس فيه.
وهو أول من قال حينئذ: بصبصن إذ حدين بالأذناب، فذهب مثلاً.
وروي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تسبّوا مضر وربيعة فإنّهما مسلمان».

.ابن نزار:

وقيل كان يكنى أبا إياد، وقيل: أبا ربيعة، أمه معانة ابنة جوشم بن جلهمة بن عمرو بن جرهم، وإخوته لأبيه وأمه قنص وقناصة وسالم وجندة وجناد والقحم وعبيد الرباح والغرف والعوف وشك وضاعة، وبه كان يكنى معد، وعدة درجوا.

.ابن معد:

وإمه مهدة ابنة اللهم، ويقال اللهم، ويقال اللهم بن جلحب بن جديس، وقيل بن طسم، وإخوته من أبيه الريث، وقيل: الريث هو عك، وقيل: عك بن الريث، وعدن بن عدنان، قيل: هو صاحب عدن وأبين وإليه تنسب أبين، ودرج نسله ونسل عدن، وأد وأبي بن عدنان، ودرج، والضحاك والغني.
فلحق ولد عدنان باليمن عند حرب بخت نصر، وحمل إرميا وبرخيا معداً إلى حران فأسكناه بها. فلما سكنت الحرب رداه إلى مكة فرأى إخوته قد لحقوا باليمن.

.ابن عدنان:

ولعدنان أخوان يدعى أحدهما نبتاً والآخر عامراً، فنسب النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يختلف الناسبون فيه إلى معد بن عدنان، على ما ذكرت، يختلفون فيما بعد ذلك اختلافاً عظيماً لا يحصل منه على غرض، فتارة يجعل بعضهم بين عدنان وبين إسماعيل، عليه السلام، أربعة آباء، ويجعل آخر بينهما أربعين أباً، ويختلفون أيضاً في الأسماء أشد من اختلافهم في العدد، فحيث رأيت الأمر كذلك لم أعرج على ذكر شيء منه، ومنهم من يروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في نسبه حديثاً يصله بإسماعيل، ولا يصح في ذلك الحديث.

.ذكر الفواطم والعواتك:

وإما الفواطم اللائي ولدن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فخمس: قرشية وقيسيتان ويمانيتان. أما القرشية فأم أبيه عبد الله بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران ابن مخزوم المخزومية.
وأما القيسيتان فأم عمرو بن عايذ بن فاطمة ابنة عبد الله بن رزاح بن ربيعة ابن جحوش بن معاوية بن بكر بن هوازن، وأمها فاطمة بنت الحارث بن بهثة بن ليم بن منصور.
وأما اليمانيتان فأم قصي بن كلاب فاطمة بنت سعد بن سيل بن أزد شنوءة وأم حبى بنت حليل بن حبشية بن كعب بن سلول، وهي أم قصي فاطمة بنت نصر بن عوف بن عمرو بن ربيعة بن حارثة الخزاعية.
وأما العواتك فاثنتا عشرة: اثنتان من قريش، وواحدة من بني يخلد ابن النضر، وثلاث من سليم، وعدويتان، وهذلية، وقضاعية، وأسدية.
فأما القرشيتان فأم أمه آمنة بنت وهب برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وأم برة أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى، وأم أسد ريطة بنت كعب بن سعد بن تيم، وأمه أميمة بنت عامر الخزاعية، وأمها عاتكة بنت هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهم، وأم هلال هند بنت هلال ابن عامر بن صعصعة، وأم أهيب بن ضبة عاتكة بنت غالب بن فهر، وأمها عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة.
وأما السلميات فأم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج ابن ذكوان بن بهثة بن سليم بن منصور، وأم عبد مناف عاتكة بنت هلال بن فالج، والثالثة أم جده لأمه وهب، وهي عاتكة بنت الأوقص بن مرة ابن هلال.
قلت: هكذا ذكر بعض العلماء عواتك سليم، وجعل أم عبد مناف عاتكة بنت مرة، وليس بشيء، فإن أم عبد مناف حبى بنت حليل الخزاعية، وقال غيره: أم هاشم عاتكة بنت مرة، وأم مرة بن هلال عاتكة بنت جابر ابن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، وأم هلال بن فالج عاتكة بنت عصية بن خفاف بن امرئ القيس.
وأما العدويتان فمن جهة أبيه عبد الله، فإن أم عبد الله فاطمة بنت عمرو، وأم فاطمة تخمر بنت عبد قصي، وأمها هند بنت عبد الله بن الحارث بن وائلة بن الظرب، وأمها زينب بنت مالك بن ناصرة بن كعب الفهمية.
وأما عاتكة بنت عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن بكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وأم مالك بن النضر عاتكة، فهي عكرشة، وهي الحصان بنت عدوان.
وأما الأزدية فأم النضر بن كنانة بنت مرة بن أد أخت تميم، وأمها ماوية من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، وأمها عاتكة بنت الأزد بن الغوث، وقد ولدته هذه الأزدية مرة أخرى من قبل غالب بن فهر، فإن أم غالب ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وأمها سلمى بنت طابخة بن إلياس ابن مضر، وأمها عاتكة بنت الأزد هذه.
وأما الهذلية فعاتكة بنت سعد بن سيل، هي أم عبد الله بن رزام جد عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم لأمه، وعمر وجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبو أمه.
وأما القضاعية فأم كعب بن لؤي ماوية بنت القين بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة، وأمها وحشية بنت ربيعة بن حرام بن ضنة العذرية، وأمها عاتكة بنت رشدان بن قيس بن جهينة.
وأما الأسدية فأم كلاب بن مرة هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كلاب، وأمها عاتكة بنت دودان بن أسد بن خزيمة.
وعايذ بن عمران بالياء المثناة من تحتها، والذال المعجمة. وسعد بن سل بفتح السين المهملة، والياء المثناة من تحتها المفتحة. حيي بضم الحاء المهملة، وبالياء المثناة من تحتها، وتشديد الياء الممالة. وحليل بضم الحاء المهملة، وبالياء المثناة من تحتها. وجسر بفتح الجيم، وتسكين السين المهملة. حارثة بالحاء المهملة، والثاء المثلثة. ووائلة بن الظرب بالياء المثناة من تحتها. وضبة بن الحارث بالضاد المعجمة المفتوحة، والباء المشددة الموحدة. وشيع الله بالشين المعجمة المفتوحة، والياء المثناة من تحتها الساكنة. وحرام بفتح الحاء المهملة، والراء المهملة. وضنة العذري بكسر الضاد المعجمة، والنون المشددة. وعصية بالعين المهملة المضمومة، وفتح الصاد والياء المثناة من تحتها.

.عدنا إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم:

توفي عبد المطلب بعد الفيل بثماني سنين، وأوصى أبا طالب برسول الله، صلى الله عليه وسلم. فكان أبو طالب هو الذي قام بأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بعد جده، ثم إن أبا طالب خرج إلى الشام، فلما أراد المسير لزمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرق له وأخذه معه، ولرسول الله، صلى الله عليه وسلم، تسع سنين. فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان ذا علم في النصرانية، ولم يزل بتلك الصومعة راهب يصير إليه علمهم، وبها كتاب يتوارثونه. فلما رآهم بحيرا صنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك لأنه رأى على رسول الله غمامةً تظلله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الشجرة وقد هصرت أغصانها حتى استظل بها، فنزل إليهم من صومعته ودعاهم. فلما رأى بحيرا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها من صفته.
فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا، سأل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن أشياء من حاله في يقظته ونومه فوجدها بحيرا موافقة لما عنده من صفته، ثم نظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه، ثم قال بحيرا لعمه أبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حياً. قال: فإنه ابن أخي مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن له شأن عظيم.
فخرج به عمه حتى أقدمه مكة.
وقيل: بينما هو يقول لعمه في إعادته إلى مكة وتخوفهم عليه من الروم إذ أقبل سبعة نفر من الروم، فقال لهم بحيرا: ما جاء بكم؟ قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليها ناس، وإنا بعثنا إلى طريقك. قال: أرأيتم أمراً أراده الله هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. وتابعوا بحيرا وأقاموا عنده.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما هممت بشيء مما كان الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته؛ قلت ليلة لغلام يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب. فقال: أفعل. فخرجت حتى إذ كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس، فعدت إلى صاحبي فسألني فأخبرته. ثم قتل له ليلة أخرى مثل ذلك ودخلت مكة، فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بعده بسوء.

.ذكر نكاح النبي صلى الله عليه وسلم خديجة:

ونكح رسول الله، صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة. وسبب ذلك أن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش تجاراً، فلما بلغها عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صدق الحديث وعظم الأمانة وكرم الأخلاق أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلامها ميسرة. فأجابها وخرج معه ميسرة حتى قدم الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب، فأطلع الراهب رأسه إلى ميسرة فقال: من هذا؟ قال ميسرة: هذا رجل من قريش. فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي.
ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترى وعاد، فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره. فلما قدم مكة ربحت خديجة ربحاً كثيراً، وحدثها ميسرة عن قول الراهب وما رأى من إظلال الملكين إياه.
وكانت خديجة امرأة حازمة عاقلة شريفة مع ما أراده الله من كرامتها، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرضت عليه نفسها، وكان أوسط نساء قريش نسباً وأكثرهن مالاً وشرفاً، وكل قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه. فلما أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأعمامه، وخرج ومعه حمزة بن عبد المطلب وأبو طالب وغيرهما من عمومته حتى دخل خويلد بن أسد فخطبها إليه، فتزوجها فولدت له أولاده كلهم، إلا إبراهيم: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، والقاسم، وبه كان يكنى، وعبد الله، والطاهر، والطيب. وقيل: إن عبد الله ولد في الإسلام هو والطاهر والطيب، فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه.
وقيل: إن الذي زوجها عمها عمرو بن أسد، وإن أباها مات قبل الفجار. قال الواقدي: وهو الصحيح، لأن أباها توفي قبل الفجار.
وكان منزل خديجة يومئذ المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال: إن معاوية اشتراه وجعله مسجداً يصلى فيه.
وكان الرسول بين خديجة وبين النبي، صلى الله عليه وسلم نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية، وأسلمت يوم الفتح، فبرها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأكرمها.
منية بالنون الساكنة، والياء المثناة من تحتها.

.ذكر حلف الفضول:

قال ابن إسحاق: وكان نفر من جرهم وقطوراء يقال لهم: الفضيل بن الحارث الجرهمي، والفضيل بن وداعة القطوري، والمفضل بن فضالة الجرهمي، اجتمعوا فتحالفوا أن لا يقروا ببطن مكة ظالماً، وقالوا: لا ينبغي إلا ذلك لما عظم الله من حقها، فقال عمرو بن عوف الجرهمي:
إنّ الفضول تحالفوا وتعاقدوا ** ألاّ يقرّ ببطن مكّة ظالم

أمرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا ** فالجار والمعتّر فيهم سالم

ثم درس ذلك فلم يبق إلا ذكره في قريش.
ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكانوا بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم من مرة، فتحالفوا وتعاقدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف الفضول، وشهده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال حين أرسله الله تعالى: لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت.
قال: وقال محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما، والوليد يومئذ أمير على المدينة لعمه معاوية، فتحامل الوليد لسلطانة. فقال له الحسين: أقسم بالله لتنصفني أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير، وكان حاضراً: وأنا أحلف بالله لو دعا به لأجبته حتى ينصف من حقه أو نموت. وبلغ المسور بن مخرمة الزهري فقال مثل ذلك، وبلغ عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ الوليد ذلك أنصف الحسين من نفسه حتى رضي.

.ذكر هدم قريش الكعبة وبنائها:

وفي سنة خمس وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم، هدمت قريش الكعبة.
وكان سبب هدمهم إياها أنها كانت رضيمة فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً من قريش وغيرهم سرقوا كنزها وفيه غزلان من ذهب، وكانا في بئر في جوف الكعبة.
وكان أمر غزالي الكعبة أن الله لما أمر إبراهيم وإسماعيل ببناء الكعبة ففعلا ذلك، وقد تقدم ذكره، وأقام إسماعيل بمكة وكان يلي البيت حياته، وبعده وليه ابنه نبت. فلما مات نبت ولم يكثر ولد إسماعيل غلبت جرهم على ولاية البيت، فكان أول من وليه منهم مضاض، ثم ولده من بعده حتى بغت جرهم واستحلوا حرمة البيت فظلموا من دخل مكة حتى قيل: إن إسافاً ونائلة زنيا في البيت فمسخا حجرين.
وكانت خزاعة قد أقامت بتهامة بعد تفرق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، فأرسل الله على جرهم الرعاف أفناهم، فاجتمعت خزاعة على إجلاء من بقي منهم، ورئيس خزاعة عمرو بن ربيعة بن حارثة فاقتتلوا، فلما أحس عامر بن الحارث الجرهمي بالهزيمة خرج بغزالي الكعبة والحجر الأسود يلتمس التوبة وهو يقول:
الاهمّ إنّ جرهماً عبادك

النّاس طرفٌ وهم تلادك

بهم قديماً عمرت بلادك

فلم تقبل توبته، فدفن غزالي الكعبة ببئر زمزم وطمها وخرج بمن بقي من جرهم إلى أرض جهينة، فجاءهم سيل فذهب بهم أجمعين، وقال عمرو بن الحارث:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ** أنيسٌ ولم يسمر بمكّة سامر

بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ** صروف اللّيالي والجدود العواثر

وولي البيت بعد جرهم عمرو بن ربيعة، وقيل: وليه عمرو بن الحارث الغساني، ثم خزاعة بعده، غير أنه كان في قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالحج من عرفة، وكان ذلك إلى الغوث بن مر بن أد، وهو صوفة، والثانية الإضافة من جمع إلى منى، وكانت إلى بني زيد بن عدوان، وآخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد، والثالثة النسيء للشهور الحرم، فكان ذلك إلى القلمس، وهو حذيفة بن فقيم بن كنانة، ثم إلى بنيه من بعده، ثم صار ذلك إلى أبي ثمامة، وهو جنادة بن عوف بن قلع بن حذيفة؛ وقام الإسلام وقد عادت الأشهر الحرم إلى أصلها فأبطل الله عز وجل النسيء.
ثم وليت البيت بعد خزاعة قريش، وقد ذكرنا ذلك عند ذكر قصي بن كلاب. ثم حفر عبد المطلب زمزم فأخرج الغزالين، كما تقدم.
وكان الذي وجد الغزالان عنده دويك، مولى لبني مليح بن خزاعة، فقطعت قريش يده، وكان فيمن اتهم في ذلك: عامر بن الحارث بن نوفل، وأبو هارب بن عزيز، وأبو لهب بن عبد المطلب.
وكان البحر قد ألقى سفينة إلى جدة لتاجر رومي فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوا لسقفها، فتهيأ لهم بعض ما يصلحها. وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتشرف على جدار الكعبة، وكان لا يدنو منها أحد إلا كشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينما هي يوماً على جدار الكعبة اختطفها طائرٌ فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله عز وجل قد رضي ما أردناه.
وكان ذلك ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابن خمس وثلاثين سنة، وبعد الفجار بخمس عشرة سنة.
فلما أرادوا هدمها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فتناول حجراً من الكعبة فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها إلا طيباً ولا تدخلوا فيه مهر بغيٍّ ولا بيع رباً ولا مظلمة أحد.
وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال هذا.
ثم إن الناس هابوا هدمها فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدأكم به، فأخذ المعول فهدم، فتربص الناس به تلك الليلة وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً، فأصبح الوليد سالماً وغدا إلى عمله فهدم والناس معه حتى انتهى الهدم إلى الأساس ثم أفضوا إلى حجارة خضر آخذ بعضها ببعض، فأدخل رجل من قريش عتلةً بين حجرين منها ليقلع به أحدهما. فلما تحرك الحجر انتقضت مكة بأسرها، ثم جمعوا الحجارة لبنائها ثم بنوا حتى بلغ البنيان موضع الركن، فأرادت كل قبيلة رفعه إلى موضعه حتى تحالفوا وتواعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنةً مملوءة دماً ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم فسموا لعقة الدم بذلك، فمكثوا على ذلك أربع ليال ثم تشاوروا. فقال أبو أمية بن المغيرة، وكان أسن قريش: اجعلوا بينكم حكماً أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينكم، فكان أول من دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا به، وأخبروه الخبر، فقال: هلموا إلي ثوباً، فأتي به، فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا. فلما بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بني عليه.